الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ولكن لفظ [الروح، والنفس] يعبر بهما عن عدة معان: فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن، والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء الروح ويسمى الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس. ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه كما يقال: رأيت زيدًا نفسه وعينه،وقد قال تعالى: فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: الله نفسه التي / هي ذاته المتصفة بصفاته ليس المراد بها ذاتًا منفكة عن الصفات ولا المراد بها صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ. وقد يراد بلفظ النفس: الدم الذي يكون في الحيوان كقول الفقهاء: [ما له نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة] ومنه يقال: نفست المرأة إذا حاضت، ونفست إذا نفسها ولدها، ومنه قيل: النفساء، ومنه قول الشاعر: تسيل على حد الظباة نفوسنا ** وليست على غير الظباة تسيل فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح، ويراد بالنفس عند كثير من المتأخرين صفاتها المذمومة، فيقال: فلان له نفس، ويقال: اترك نفسك، ومنه قول أبي مرثد: رأيت رب العزة في المنام، فقلت: أي رب، كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك. ومعلوم أنه لا يترك ذاته وإنما يترك هواها وأفعالها المذمومة، ومثل هذا كثير في الكلام،يقال: فلان له لسان، فلان له يد طويلة، فلان له قلب، يراد بذلك لسان ناطق، ويد عاملة صانعة، وقلب حي عارف بالحق مريد له، قال تعالى: كذلك النفس لما كانت حال تعلقها بالبدن يكثر عليها اتباع هواها صار / لفظ [النفس] يعبر به عن النفس المتبعة لهواها أو عن اتباعها الهوى، بخلاف لفظ "الروح" فإنها لا يعبر بها عن ذلك؛ إذ كان لفظ [الروح] ليس هو باعتبار تدبيرها للبدن. [النفس الأمارة بالسوء] التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي. و[النفس اللوامة] وهي التي تذنب وتتوب فعنها خير وشر، لكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب ؛ ولأنها تتلوم أي تتردد بين الخير والشر. و[النفس المطمئنة] وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خلقًا وعادة وملكة، فهذه صفات وأحوال لذات واحدة، وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه. وقد قال طائفة من المتفلسفة الأطباء: إن النفوس ثلاثة: نباتية، محلها الكبد. وحيوانية ،محلها القلب. وناطقية، محلها الدماغ. وهذا إن أرادوا به أنها ثلاث قوى تتعلق بهذه الأعضاء فهذا مسلم، وإن أرادوا أنها ثلاثة أعيان قائمة بأنفسها فهذا غلط بين .
وأما قول السائل: هل لها كيفية تعلم؟ فهذا سؤال مجمل، إن أراد أنه يعلم ما يعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يعلم، وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يشهده من الأجسام، أو هل لها من جنس شيء من ذلك؟ فإن أراد ذلك فليس كذلك، فإنها ليست من جنس العناصر: الماء والهواء والنار والتراب، ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعدن، ولا من جنس الأفلاك والكواكب، فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود؛ ولهذا يقال: إنه لا يعلم كيفيتها، ويقال: إنه "من عرف نفسه عرف ربه" من جهة الاعتبار، ومن جهة المقابلة، ومن جهة الامتناع. فأما الاعتبار، فإنه يعلم الإنسان أنه حي عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه من أنه حي عليم قدير سميع بصير، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه لم يمكن أن يفهم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لما في الدنيا: من العسل، واللبن، / والماء ،والخمر، والحرير، والذهب، والفضة، لما أمكنه أن يتصور ما أخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة،فقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فإن هذه الحقائق التي أخبر بها أنها في الجنة، ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا، بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع عليها ما يمتنع عليها، وتكون مادتها مادتها وتستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يفسد ويأسن، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يصدع شاربها ولا ينزف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب، ولا نازلا من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا، وأمثال ذلك، فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه، علم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق ـ جل جلاله ـ أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا. فإذا وصف نفسه بأنه حي عليم سميع بصير قدير، لم يلزم أن يكون مماثلا لخلقه؛ إذ كان بعدها عن مماثلة خلقه أعظم من بعد مماثلة كل مخلوق لكل مخلوق، وكل واحد من صغار الحيوان لها حياة وقوة وعمل وليست مماثلة للملائكة المخلوقين، فكيف يماثل رب العالمين شيئًا من المخلوقين. والله ـ سبحانه وتعالى ـ سمى نفسه وصفاته بأسماء، وسمى بها بعض المخلوقات، فسمى نفسه حيًا عليما سميعًا بصيرًا عزيزًا جبارًا متكبرًا / ملكا رؤوفًا رحيما؛ وسمى بعض عباده: عليما، وبعضهم: حليما، وبعضهم: رؤوفًا رحيما، وبعضهم: سميعًا بصيرًا، وبعضهم: ملكا، وبعضهم: عزيزًا، وبعضهم: جبارًا متكبرًا، ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، وهكذا في سائر الأسماء، قال سبحانه وتعالى: وأما من جهة [المقابلة] فيقال: من عرف نفسه بالعبودية عرف ربه بالربوبية، ومن عرف نفسه بالفقر عرف ربه بالغنى، ومن عرف نفسه بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالعلم، ومن عرف نفسه بالذل عرف ربه بالعز، وهكذا أمثال ذلك؛ لأن العبد ليس له من نفسه إلا العدم، وصفات النقص كلها ترجع إلى العدم، وأما الرب تعالى: فله صفات الكمال، وهي من لوازم ذاته، يمتنع انفكاكه عن صفات الكمال أزلًا وأبدًا، ويمتنع عدمها؛ لأنه واجب الوجود أزلًا وأبدًا، وصفات كماله من لوازم ذاته، ويمتنع ارتفاع اللازم إلا بارتفاع الملزوم، فلا يعد شيء من صفات كماله إلا بعدم ذاته، /وذاته يمتنع عليها العدم، فميتنع على شيء من صفات كماله العدم. وأما من جهة العجز والامتناع، فإنه يقال: إذا كانت نفس الإنسان التي هي أقرب الأشياء إليه، بل هي هويته وهو لا يعرف كيفيتها ولا يحيط علما بحقيقتها - فالخالق جل جلاله ـ أولى ألا يعلم العبد كيفيته، ولا يحيط علما بحقيقته؛ ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم بربه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أْعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وثبت في صحيح مسلم وغيره: أنه كان يقول هذا في سجوده. وقد روى الترمذي وغيره: أنه كان يقوله في قنوت الوتر، وإن كان في هذا الحديث نظر، فالأول صحيح ثابت.
وأما سؤال السائل: هل هو جوهر أو عرض ؟ فلفظ [الجوهر] فيه إجمال، ومعلوم أنه لم يرد بالسؤال الجوهر في اللغة، مع أنه قد قيل: إن لفظ [الجوهر] ليس من لغة العرب وأنه معرب، وإنما أراد السائل الجوهر في الاصطلاح من تقسيم الموجودات إلى جوهر وعرض. /وهؤلاء منهم من يريد بالجوهر المتحيز، فيكون الجسم المتحيز عندهم جوهرًا، وقد يريدون به الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ. والعقلاء متنازعون في إثبات هذا،وهو أن الأجسام هل هي مركبة من الجواهر المفردة؟ أم من المادة والصورة؟ أم ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ؟ على ثلاثة أقوال: أصحها: الثالث، أنها ليست مركبة لا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، وهذا قول كثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية، وهو قول جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم، بل هو قول أكثر العقلاء كما قد بسط في موضعه. والقائلون بأن لفظ [الجوهر] يقال على المتحيز متنازعون: هل يمكن وجود جوهر ليس بمتحيز؟ ثم هؤلاء منهم من يقول: كل موجود، فإما جوهر وإما عرض، ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجوهر، ومن هؤلاء من يقول: كل موجود، فإما جسم أو عرض، ويدخل الموجود الواجب في مسمى الجسم، وقد قال بهذا وبهذا طائفة من نظار المسلمين وغيرهم، ومن المتفلسفة والنصارى من يسميه جوهرًا ولا يسميه جسمًا، وحكى عن بعض نظار المسلمين أنه يسميه جسمًا ولا يسميه جوهرًا، إلا أن الجسم عنده / هو المشار إليه أو القائم بنفسه، والجوهر عنده هو الجوهر الفرد. ولفظ [العرض] في اللغة له معنى ،وهو ما يعرض ويزول كما قال تعالى: ومعلوم أن مذهب السلف والأئمة وعامة أهل السنة والجماعة إثبات صفات الله، وأن له علمًا وقدرة وحياة وكلامًا، ويسمون هذه الصفات، ثم منهم من يقول: هي صفات وليست أعراضًا؛ لأن العرض لا يبقى زمانين وهذه باقية، ومنهم من يقول: بل تسمى أعراضًا؛ لأن العرض قد يبقى، وقول من قال: إن كل عرض لا يبقى زمانين قول ضعيف، وإذا كانت الصفات الباقية تسمى أعراضًا جاز أن تسمى هذه أعراضًا. ومنهم من يقول: أنا لا أطلق ذلك، بناء على أن الإطلاق مستنده الشرع. والناس متنازعون: هل يسمى الله بما صح معناه في اللغة والعقل والشرع، وإن لم يرد بإطلاقه نص ولا إجماع، أم لا يطلق إلا ما أطلق نص أو إجماع؟ على قولين مشهورين. وعامة النظار يطلقون ما لا نص في إطلاقه ولا إجماع كلفظ القديم والذات / ونحو ذلك، ومن الناس من يفصل بين الأسماء التي يدعى بها، وبين ما يخبر به عنه للحاجة، فهو ـ سبحانه ـ إنما يدعى بالأسماء الحسنى كما قال: وأما إذا احتيج إلى الإخبار عنه مثل أن يقال: ليس هو بقديم ولا موجود ولا ذات قائمة بنفسها، ونحو ذلك، فقيل في تحقيق الإثبات بل هو ـ سبحانه ـ قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها، وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء فهذا سائغ، وإن كان لا يدعي بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على المدح كقول القائل: يا شيء، إذ كان هذا لفظًا يعم كل موجود، وكذلك لفظ: [ذات وموجود] ونحو ذلك، إلا إذا سمى بالموجود الذي يجده من طلبه كقوله: إذا تبين هذا، فالنفس ــ وهي الروح المدبرة لبدن الإنسان ــ هي من باب ما يقوم بنفسه التي تسمى جوهرًا وعينًا قائمة بنفسها، ليست من باب الأعراض التي هي صفات قائمة بغيرها. وأما التعبير عنها بلفظ [الجوهر] و[الجسم]، ففيه نزاع، بعضه اصطلاحي وبعضه معنوي. فمن عنى بالجوهر القائم بنفسه فهي جوهر، ومن عني بالجسم ما يشار إليه وقال: إنه يشار إليها فهي عنده جسم، ومن عنى بالجسم المركب / من الجواهر المفردة أو المادة والصورة فبعض هؤلاء قال: إنها جسم أيضًا، ومن عنى بالجوهر المتحيز القابل للقسمة فمنهم من يقول: إنها جوهر، والصواب أنها ليست مركبة من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة، وليست من جنس الأجسام المتحيزات المشهودة المعهودة، وأما الإشارة إليها فإنه يشار إليها وتصعد وتنزل وتخرج من البدن وتسل منه، كما جاءت بذلك النصوص ودلت عليها الشواهد العقلية.
وأما قول القائل، أين مسكنها من الجسد؟ فلا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسرى الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة.
وأما قوله: أين مسكن العقل فيه؟ فالعقل قائم بنفس الإنسان التي تعقل، وأما من البدن فهو متعلق بقلبه كما قال تعالى: لكن لفظ [القلب] قد يراد به المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من البدن، التي جوفها علقة سوداء، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)، وقد يراد بالقلب باطن الإنسان مطلقًا، فإن قلب الشيء باطنه، كقلب الحنطة واللوزة والجوزة ونحو ذلك، ومنه سمى القليب قليبًا ؛ لأنه أخرج قلبه وهو باطنه، وعلى هذا، فإذا أريد بالقلب هذا فالعقل متعلق بدماغه أيضًا؛ ولهذا قيل: إن العقل في الدماغ، كما يقوله كثير من الأطباء، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، ويقول طائفة من أصحابه: إن أصل العقل في القلب، فإذا كمل انتهى إلى الدماغ. والتحقيق: أن الروح التي هي النفس لها تعلق بهذا وهذا، وما يتصف / من العقل به يتعلق بهذا وهذا، لكن مبدأ الفكر والنظر في الدماغ، ومبدأ الإرادة في القلب. والعقل يراد به العلم، ويراد به العمل، فالعلم والعمل الاختياري أصله الإرادة، وأصل الإرادة في القلب، والمريد لا يكون مريدًا إلا بعد تصور المراد، فلابد أن يكون القلب متصورًا، فيكون منه هذا وهذا، ويبتدئ ذلك من الدماغ، وآثاره صاعدة إلى الدماغ، فمنه المبتدأ وإليه الانتهاء، وكلا القولين له وجه صحيح، وهذا مقدار ما وسعته هذه الأوراق، والله أعلم.
أيما أفضل: العلم، أو العقل ؟ فأجاب: إن أريد بالعلم علم الله تعالى الذي أنزله الله تعالى، وهو الكتاب، كما قال تعالى: وإن أريد بالعقل أن يعقل العبد أمره ونهيه، فيفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه، فهذا العقل يدخل صاحبه به الجنة، وهو أفضل من العلم، الذي لا يدخل صاحبه به الجنة، كمن يعلم ولا يعمل. وإن أريد العقل الغريزة التي جعلها الله في العبد التي ينال بها العلم والعمل، فالذي يحصل به أفضل ؛ لأن العلم هو المقصود به، وغريزة العقل وسيلة إليه، والمقاصد أفضل من وسائلها. وإن أريد بالعقل العلوم التي تحصل بالغريزة ،فهذه من العلم فلا يقال: أيما / أفضل: العلم أوالعقل، ولكن يقال: أيما أفضل هذا العلم أو هذا العلم، فالعلوم بعضها أفضل من بعض، فالعلم بالله أفضل من العلم بخلقه؛ ولهذا كانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن؛ لأنها صفة الله تعالى. وكانت والجواب في هذه المسألة ـ مسألة العلم والعقل ـ لابد فيه من التفصيل؛ لأن كل واحد من الاسمين يحتمل معان كثيرة، فلا يجوز إطلاق الجواب بلا تفصيل؛ ولهذا أكثر النزاع فيها لمن لم يفصل، ومن فصل الجواب فقد أصاب، والله أعلم.
/وقال شيخ الإسلام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبوالعباس أحمد بن تيمية الحراني ـ قدس الله روحه ونور ضريحه: ثم إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له ـ سبحانه ـ كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة. فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خلق له وأعد لأجله، فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيرًا وصلاحًا لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استعمل فيه، وذلك الإنسان الصالح / هو الذي استقام حاله ،و وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالًا فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا ،ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب، كما سمى قلبًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام علانية والإيمان في القلب) ثم أشار بيده إلى صدره وقال: (ألا إن التقوى ها هنا إلا إن التقوى ها هنا). وإذ قد خلق القلب لأن يعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطرف إلى الأشياء طلبًا لرؤيتها هو النظر، فالفكر للقلب، كالإصغاء للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه، وكم من ناظر مفكر لم يحصل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه. /وعكسه من يؤتي علمًا بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقة تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه، أو سمع قولًا من غير أن يصغى إليه، و ذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلا من الإنسان فيكون مطلوبًا، وقد يأتي فضلا من الله فيكون موهوبًا. فصلاح القلب وحقه، والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها فقط، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلًا له، بل غافلًا عنه ملغيًا له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنيًا فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، و ذلك هو الذي أوتى الحكمة، وهذا، مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك. ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم ويدرك، أعنى العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه، من الشم والذوق / واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك، قال الله تعالى: وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان، فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذ كان العلم هو غذاءه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حجبة له توصل إليه من الأخبار ما لم /يكن ليأخذه بنفسه، حتى إن من فقد شيئًا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه. فالأصم لا يعلم ما في الكلام من العلم، والضرير لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة، وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب، أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب، فإنه لا يعقل شيئًا فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: فإن من يؤتي الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين، إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله فاتبعه و لم يحتج إلى من يدعوه إليه، فذلك صاحب القلب؛ أو رجل لم يعقله بنفسه بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبينه له ويعظه ويؤدبه، فهذا أصغى فـ ويتبين قوله: ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق، فإن الله هو الحق المبين، ألا كل شيء ما خلا الله باطل** أي: ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه إلا وجدته إلى العدم، وما هو فقير إلى الحي القيوم، فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى رأيته حينئذ موجودًا مكسوًا حلل الفضل والإحسان، فقد استبان أن القلب إنما خلق لذكر الله سبحانه ؛ و لذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام ـ أظنه سليمان الخواص رحمه الله ـ قال: الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا، أو كما قال. فإذا كان القلب مشغولًا بالله، عاقلا للحق، متفكرًا في العلم، فقد / وضع في موضعه، كما أن العين إذا صرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها، أما إذا لم يصرف إلى العلم ولم يوع فيه الحق فقد نسي ربه، فلم يوضع في موضع بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وضع في موضع غير موضعه، بل لم يوضع أصلا ؛ فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل، فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلا، وما ليس بشيء أحرى ألا يكون موضعًا. والقلب هو نفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خلق له، فأما لو ترك وحاله التي فطر عليها فارغًا عن كل ذكر، خاليًا عن كل فكر، فقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه، ويرى الحق الذي لا ريب فيه، فيؤمن بربه وينيب إليه، فإن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، لا يحس فيها من جدع / ثم الهوى قد يعترض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق كما قيل: (حبك الشيء يعمي ويصم)، فيبقى في ظلمه الأفكار،وكثيرًا ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب بالحق، وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه، كما قال ربنا ـ سبحانه ـ فيهم: ثم القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل،كما قال تعالى: ولابد مع ذلك أن يكون زكيا صافيًا سليما، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار. و تلخيص هذه الجملة: أنه إذا استعمل في الحق فله وجهان: وجه مقبل على الحق، ومن هذا الوجه يقال له: وعاء وإناء ؛ لأن ذلك يستوجب ما يوعي فيه ويوضع فيه، وهذه الصفة صفة وجود وثبوت. ووجه معرض عن الباطل، ومن هذا الوجه يقال له: زكي وسليم / وطاهر؛ لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر وانتفاء الخبث والدغل، وهذه الصفة صفة عدم ونفي. وبهذا يتبين أنه إذا صرف إلى الباطل فله وجهان كذلك: وجه الوجود: أنه منصرف إلى الباطل مشغول به. ووجه العدم: أنه معرض عن الحق غير قابل له، وهذا يبين من البيان والحسن والصدق ما في قوله: إذا ما وضعت القلب في غير موضع ** بغيـر إناء فهو قلـب مضـيع فإنه لما أراد أن يبين حال من ضيع قلبه، فظلم نفسه بأن اشتغل بالباطل وملأ به قلبه حتى لم يبق فيه متسع للحق، ولا سبيل له إلى الولوج فيه ذكر ذلك منه، فوصف حال هذا القلب بوجهيه، ونعته بمذهبيه، فذكر أولا وصف الوجود منه فقال: إذا ما وضعت القلب في غير موضع. يقول: إذا شغلته بما لم يخلق له فصرفته إلى الباطل حتى صار موضوعا فيه، ثم الباطل على منزلتين: /إحداهما: تشغل عن الحق ولا تعانده مثل الأفكار والهموم التي في علائق الدنيا وشهوات النفس. والثانية: تعاند الحق وتصد عنه، مثل الآراء الباطلة، والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع وشبه ذلك، بل القلب لم يخلق إلا لذكر الله، فما سوى ذلك فليس موضعًا له. ثم ذكر ثانيًا وصف العدم فيه، فقال: بغير إناء، ثم يقول: إذا وضعته بغير إناء ضيعته، ولا أنا معك، كما تقول: حضرت المجلس بلا محبرة. فالكلمة حال من الواضع، لا من الموضوع ،والله أعلم. وبيان هذه الجملة ـ والله أعلم ـ أنه يقول: إذا ما وضعت قلبك في غير موضع فقد شغل بالباطل، ولم يكن معك إناء يوضع فيه الحق، و ينزل إليه الذكر والعلم الذي هو حق القلب، فقلبك إذًا مضيع ضيعته من وجهي التضييع، وإن كانا متحدين من جهة أنك وضعته في غير موضع، ومن جهة أنه لا إناء معك يكون وعاء للحق الذي يجب أن يعطاه،كما لو قيل لملك قد أقبل على اللهو: إذا اشتغلت بغير المملكة وليس في المملكة من يدبرها فهو ملك ضائع، لكن الإناء هنا هو القلب بعينه،وإنما كان ذلك كذلك؛لأن القلب لا ينوب عنه غيره فيما يجب أن يوضع فيه /وإنما خرج الكلام في صورة اثنين بذكر نعتين لشيء واحد، كما جاء نحوه في قوله تعالى: والقلب لما كان يقبل الذكر والعلم، فهو بمنزلة الإناء الذي يوضع فيه الماء وإنما ذكر في هذا البيت الإناء من بين سائر أسماء القلب؛ لأنه هو الذي يكون رقيقًا وصافيا، و هو الذي يأتي به المستطعم المستعطى في منزلة البائس الفقير. ولما كان ينصرف عن الباطل فهو زكي وسليم، فكأنه اثنان. وليتبين في الصوة أن الإناء غير القلب، فهو يقول: إذا وضعت قلبك في غير موضع. وهو الذي يوضع فيه الذكر والعلم، ولم يكن معك إناء يوضع فيه المطلوب فمثلك مثل رجل بلغه أن غنيا يفرق على الناس طعامًا وكان له زبدية / أو سكرجة فتركها، ثم أقبل يطلب طعامًا، فقيل له: هات إناء نعطيك طعامًا ،فأما إذا أتيت وقد وضعت زبديتك ـ مثلا ـ في البيت وليس معك إناء نعطيك فلا نأخذ شيئًا فرجعت بخفي حنين. وإذا تأمل من له بصيرة بأساليب البيان وتصاريف اللسان وجد موقع هذا الكلام من العربية والحكمة كليهما موقعًا حسنًا بليغًا؛ فإن نقيض هذه الحال المذكورة أن يكون القلب مقبلا على الحق والعلم والذكر معرضا عن غير ذلك . وتلك هي الحنيفية ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ فإن الحنف هو إقبال القدم وميلها إلى أختها ،فالحنف الميل عن الشيء بالإقبال على آخر، فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده والإعراض عما سواه، وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق، والكلمة الطيبة: [لا إله إلا الله]. اللهم ثبتنا عليها في الدنيا والآخرة ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا آخر ما حضر في هذا الوقت. والله أعلم .وصلى الله على محمد.
|